القسط ثم القسط
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى حمد الحامدين ونشكره جل وعلا شكر الشاكرين لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو ربنا ورب آبائنا الأولين خلق هذا الكون على أساس الميزان فأبى إلا القسط في صيرورته منتدبا عباده للأخذ به والعمل على إقامته فقال سبحانه وتعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ
ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُه ورسولُه بين لنا صلى الله عليه وسلم قدر حرص الله سبحانه وتعالى على إقامة القسط بين العباد وخطورةَ ترك المرء لذلك فجاء عن عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ:
يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ. قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ؟ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ الْآيَةَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ
أما بعد فهذا فحوى النداء السابع من نداءات الإيمان في سورة النساء، يدعونا فيه رب العزة إلى عدم التردد في إقامة القسط في جميع مناحي الحياة ولو أدى ذلك بالمرء إلى الألم والتألم والأزمة والتأزم فيقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
فالإسلام يولي أهمية قصوى للقسط أي للعدل الجازم ولا يقبل الظلم بأي وجه كان. فالمسلم مدعو لتقديم شهادته أو حكمه بكل نزاهة ودون أي نية مبيتة ولو كان ذلك ضد مصالحه الخاصة أو مصالح من يحبهم مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم:
قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا
وذلك كلما دعت إليه الضرورة واحتيج إليه ولله وحده الحمد والمنة.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله وآله ومن والاه. عباد الله، قول الحق والشهادة بالحق والحكم به يقوم بها المؤمن مهما كانت الظروف، مبتعدا عن كل أشكال الظلم والكذب والتلاعب. فكلما جيء به لتقديم شهادة أو إبداء رأي أو إصدار حكم في قضية ما مهما كانت صغيرة إلا وراعى العدل بتمام الأمانة لا يطلب من وراء فعله إلا رضا الله غير ملتفت لما يمكن جنيه من ربح بالكذب و الاحتيال فالبحث عن العدل هو ديدنه والوصول إلى الحق هو بغيته والوقوع في ظلم غيره هو أقصى ما يهابه. فهو يضع دائما نصب عينيه قوله صلى الله عليه وسلم:
إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فالهدف هو أن يكون المؤمن مثالا للنزاهة لا يصده عنها صاد وإن كان هذا الأخير هو والده أو أخوه أو ابن عمه. الهدف هو أن يستطيع المؤمن وضع شهادته أو إصدار حكمه وإن كان على أحب الناس إليه بل وحتى على نفسه إن كان يعلم أن ذلك سيرد حقا لصاحبه أو يعفي بريئا من ظلم سيقع عليه. ولا تظنن أن ذلك من الخيانة لمن تحب كلا! فمنطق الإسلام ليس هو تبرئة النفس أو الأحبة من إشكال في الدنيا وإنما عتقها غدا من عذاب يوم القيامة. فالمؤمن ليس لديه إشكال في الشهادة على نفسه إذا علم أن الحق ليس بجنبه. المؤمن لا يخفي ظلم والده أو أخيه إذا تيقن من أن ذلك سيؤدي إلى تجريم بريء أو أخذ حقِّ مسلوب لأنه يعلم أن ذلك عظيم عند الله مصداقا لقوله جل في علاه:
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسِبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ
فحذار من الكلام الطائش والكتابات غير المسؤولة والشهادات الزائفة على صفحات التواصل وورق الجرائد وموجات الإذاعات وطاولات الفضائيات بل كونوا طالبين لرضا الله بتقوى نيل الأعراض وبالحجم عن تشويه الصور وما يؤدي إلى زرع الفتنة والكراهية المجانية بين الناس؛ اللهم وفقنا لعبادتك ورضاك وألهمنا الصواب اللهم أعل رايتنا وراية المسلمين كافة وارحمنا وموتانا واشفنا ومرضانا وتب علينا يا ربنا وانصر اللهم ولي أمرنا وكن لنا وله والحمد لله.