ولكم في القصاص حياة
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين نحمده تعالى حمدَ الغارق في نعمه ونشكره جل وعلا شكرَ السابح في مننه ونشهدُ أنه الله المتفضل على عباده بكافة أنواع أفضاله، جعل من جملة شريعته حكمَ القِصاص وعدمَ التعدي على الحقوق وتحري جبرِها بالتعويض المادي والنفسي فقال سبحانه وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وإمامنا محمداً عبدُ الله ورسوله أعطانا أروعَ صور رد الحقوق إلى أهلها إذ قال صلى الله عليه وسلم للناس وكان صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه:
إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ عِرْضِهِ شَيْئًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَقْتَصَّ! وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا فَهَذَا بَشَرِي فَلْيَقْتَصَّ! وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ! وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلاكُمْ بِي رَجُلٌ كَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَخَذَهُ أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا مُحَلَّلٌ لِي. وَلا يَقُولَنَّ رَجُلٌ إِنِّي أَخَافُ الْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ طَبِيعَتِي وَلا مِنْ خُلُقِي!
أما بعد فإن النداء الرابع من نداءات الإيمان التي تواعدنا على تتبعها هو تأكيد لشريعة التوراة التي كتبت على بني إسرائيل حكم القِصاص إذ قال تعالى:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
فهذا النداء هو دعوةٌ ربانية للعمل على رد الحقوق إلى أصحابها دون تردد ولا كلٍّ. فالظالم مهما صغر ظلمه عليه أن يكون حريصا على طلب العفو ممن ظلمه لا أن يتستر على ظلمه فيحاول طمسه وإن أدى اعترافه ذلك إلى بتر عضو من أعضائه أو فقدِه للحياة. لأن الأصل في المسلم الصادق أن يكسب رضى ربه مهما كلفه ذلك! فإن لم يجد فعليه أن يُرضي المظلوم حتى يرضى وحينها يحل له طلب المغفرة من الله قبل أن يأتي يوم القيامة فيكون الأوان قد فات، قال صلى الله عليه وسلم:
لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ
ربنا اغفر لنا وارحمنا وتب علينا آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه. عباد الله، إن المؤمن إذا آذى غيره وإن كان من غير قصد لا يهدأ له بال حتى يستحل منه وإن حُكِمَ عليه بالبراءة من قِبَلِ العدالةِ الإنسانية لأنه يعلم أن الله تعالى ينظر إليه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ففي الصحيح عن أم سلمةَ عن النبي:
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ
هذا بالنسبة للظالم. أما المظلوم فله أن يطالب بحقه بأعلى صوته ولكن دون أن يسعى إلى أخذ أكثر مما يحيق له لأنه لو فعل لأصبح ظالما لا يحبه الله تعالى لقوله:
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ
وأحسن له من ذلك أن يكون مستعدا للعفو ما استطاع إلى ذلك سبيلا عسى أن يكتب في المتقين الذين يفوزون بمعية الله لهم مصداقا لقوله جل في علاه:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
فالعفو عند المقدرة من أعظم القربات عند الله. ألم تسمعوا إلى قوله تعالى:
سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
آهٍ، فلو كنا نفكر بهذا المنطقِ لَكَمْ من صدامٍ كنا سنتجنب ولَكَمْ مِن حقٍّ كان سَيرَدُّ إلى صاحبه من دون عناء ولا كثيرِ نقاش وَلَكَمْ سادت فينا الطمَأنينة والمحبة ولكن هيهاتَ هيهات وقد أفسدت النفس علينا لذة القناعة وحلاوة الرفق وجمال الورع. فأين نحن من توجيه نبينا المصطفى الذي يقول فيه:
لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا
اللهم كن لنا ولا تكن علينا وأصلحنا في السر والعلن يا ربنا اللهم اجعلنا من أولياءك يا كريم اللهم انصر ولي أمرنا أمير المؤمنين وتوله بحفظك واكلأه بعنايتك واجعلنا وإياه من عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم أيده بالحق وأيد الحق به حتى لا يقضي أمرا إلا لصالح الدين والمواطنين وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه آمينَ والحمد لله رب العالمين.