مقتضيات حج بيت الله الحرام
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الحمدُ لله خالقِ كلِّ شيء ومليكِه ومدبِّرِ كلِّ أمرٍ ومديرِه نحمده على جودِهِ وإحسانِه ونشكره على نعمه الظاهرة وباطن آلائه ونشهد أنه الله المتفرد في جلاله وإكرامه جعل من أسس هذا الدين حجَّ بيته فقال عز من قائل:
إِنّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُ اللهِ ورسولُه بين لنا حقيقة الحج وموفور فضائله فقال صلى الله عليه وسلم كما هو في الصحيح والسنن والمسند عن أبي هريرة:
مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ
أما بعدُ فإن من خصائص هذا الدين أن هيّأَ الله فيه لعباده مواسمَ ومواطنَ ينهلون منها الخيرَ العميم فيضاعفون أجورَهم بأقل ثمن وينالون الفضل بأقل جهد فما أن ينتهوا من موسم البركات الذي هو رمضان بما فيه من الصيام والقيام والبر والإحسان وتلاوة القرآن حتى يُقبل عليهم موسمٌ لا يقل عنه أهمية! إنه موسمُ الخيرات المتمثلُ في أشهُرِ الحج وما يقتضيه ذلك من انتقال بالروح والجسد إلى أطهر بقعة. أجل لقد لاح في الأفق القريب نورُ العشرِ الأوائل من ذي الحجة بعد أن ودعنا العشرَ الأواخر من رمضان ولا يسعنا بهذه المناسبة إلا أن نقف مع الحج كما وقفنا تباعا مع الأركان الأخرى وذلك بغية النظر في مقتضياته. وإن أول مقتضى وجب الوقوف عنده تركُ الرفث والفسوق والجدال لقوله تعالى:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ
وهذا معناه أن الإنسان المسلم متى نوى الحج وجب عليه أن يهيأ نفسه للتمرد عليها وذلك بترك ما تهواه من شهوات ودرءِ ما تحبه من نزغات فلا انبطاح أمام الميل الحيواني ولا إطلاق للسان يصول ويجول كما يحلو له ولا مكان للكِبر الذي يأباه المرء حيال مخالفيه. بل كل ما في الأمرِ الترفعُ عن شهوة الفرج طلبا لترك الحرام منها بالمرة والسموُّ عن الكذب وقولِ الزور والنميمةِ والغيبةِ وما إلى ذلك من أخلاق ذميمةٍ تدفع بالمرء إلى الفسق ثم تركُ المراءِ غيرِ المجدي تأهبا لإرساء الصلاح ونشر الإصلاح والحب والمودة في المجتمع بكامله والحمد لله.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله وآله ومن والاه. عبادَ الله، إن الترفع عن البهيمية والسُّمُوَ عن الأخلاق الشيطانية والابتعادَ عن النزاعات الفارغة لهو أفضل سبيل لبلوغ التقوى المرجوةِ من إتمام كل الفرائض الإسلامية، فالفضل كلَّ الفضل أن يحاول المسلم فيُعْمِلَ جهده لينال، ولو قدرا يسيرا، من ذلك في انتظار تحصيل ما هو أبركُ منه. فقد روى ابن حبان في صحيحه عن عبد الرحمن بن أذينة العبدي أنه سأل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه فقال: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ عليه الصلاة والسلام:
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ! فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَعَ الإِيمَانِ عَمَلا! قَالَ يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ. قُلْتُ وَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا لا شَيْءَ لَهُ؟ قَالَ يَقُولُ مَعْرُوفًا بِلِسَانِهِ! قُلْتُ فَإِنْ كَانَ عَيِيًّا لا يُبْلِغُ عَنْهُ لِسَانُهُ؟ قَالَ فَيُعِينُ مَغْلُوبًا! قُلْتُ فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لا قُدْرَةَ لَهُ؟ قَالَ فَلْيَصْنَعْ لأَخْرَقَ! قُلْتُ وَإِنْ كَانَ أَخْرَقَ؟ فالْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ فِي صَاحِبِكَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ، فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ تَيْسِيرٍ! فقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا، يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، إِلا أَخَذَتْ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ
ولا أدل على ذلك من قوله تعالى عقب نهيه عن الرفث والفسوق والجدال:
وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ
فتجندوا رحمكم لفعل الخير في موسمكم هذا ولا تتوانوا وإن لم تكونوا حاجين هذه السنة فالأصل في ابتغاء الخير مهما كانت الظروف والعبرة بالزمان وإن لم يتوفر بلوغ المكان ففي صحيح مسلم عن أنس أنه حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ
فاللهم فقهنا في ديننا وأعنا على الثبات التام على العمل الصالح وكلِّ ما يرضيك عنا. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة اللهم اجعلنا أوابين و اجعلنا توابين واجعلنا منيبين واجعلنا متطهرين وصل اللهم على سيدنا محمد وآله الطيبين وصحبه الغر المحجلين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى يسر له أمره كله واجعله من الصالحين والحمد لله رب العالمين.