(إشراقات من تاريخ إسلامنا المجيد (حفصة بنت سيرين
الحمد لله، نحمدك ربي على ما أنعمت به علينا من نعم ونشكرك يا الله على ما أسديت لنا من معروف، معترفين لك بتقصيرنا، إلا أننا نرجو رحمتك وننتظر عفوك فلا إله لنا إلا أنت، نشهد أنك الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، أوليتنا عِنايتَك وأوجبتَ لنا نصرك متى كنا في المستوى المطلوب من عبادتك فقلت:
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَشْهَادُ
ثم إنك، بمحض فضلك وكرمك، وعدت كلَّ واحدٍ منا بالسعادة الكاملة متى التزم العمل الصالح في حياته وعمِل على تصفية نيته من كل الشوائب فقلت:
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُومِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُ الله ورسوله بشر الصالحين من أمته بحب الله ورفعه إياهم وبالتمكين لهم في الأرض فقَالَ صلى الله عليه وسلم:
إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّونَهُ، قَالَ: ثُمَّ يَضَعُ اللهُ لَهُ الْقَبُولَ فِي الْأَرْضِ
أما بعد فيا عبادَ الله، بعد توقف دام زهاء شهر ونصف يطيب لي أن أعود بكم إلى ذكر القدوة وإلى الاستفادة من أحوال سلفنا الصالح الذي نرجو الله أن يجعلنا على أثره. وقد اخترت بعد ثلاثة أيام من اليوم العالمي للمرأة أن نتعرف على وجهٍ أنثويٍ عظيمٍ آخر هو وجهُ حفصةَ بنتِ سيرين التي قال بعضهم فيها إنها سيدة التابعيات. إنها أم الهذيل، الفقيهة الأنصارية أخت محمدِ بنِ سيرين الشهير الذي كان من تلاميذها. قرأتِ القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة وقيل إنها مكثت في مصلاها في آخر عمرها ثلاثين عاما لا تخرج إلا لقائلة أو قضاء حاجة وكان محمدٌ أخوها إذا أشكل عليه شيء من القراءة قال اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ. فكانت رحمها قوامةً صوامةً يحترمها الجميع حتى أنس بن مالك، على مكانته منها إذ كان مولى لأبيها، كان يأتيها فيسلم عليها ويعترف للناس بفضلها فلله درها والحمد لله في الأولى كما في الأخرى.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله وآله ومن والاه. عباد الله، إن حفصةَ رغم اشتغالها بالعبادة والقنوت لم تنقطع عن الدنيا فهي لم تتفرغ لما ذكرناه إلا بعد أن بلغت سنا معينة أي بعد أن أدت واجبها كأمِّ أبناء عليها تربيتُهم وزوجٍ عليها مسؤولية بيت زوجها وفردٍ من أفراد المجتمع تقوم بتبعاتها. ولقد عُرِفَتْ حفصة بصبرها خصوصا حين مات ابنها وكان بارا بها، كانت تحكي قائلة:
فلَمَّا مَاتَ رَزَقَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبرِ مَا شَاءَ، غَيرَ أَنِّي كُنْتُ أَجِدُ غُصَّةً لَا تَذْهَبُ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ أَقْرَأُ سُورَةَ النَّحْلِ إِذْ أَتَيْتُ عَلَى هَذِهِ الآيَةَ:
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَيَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
قَالَتْ: فَأَعَدتُهَا، فَأَذْهَبَ اللهُ عَنِّي مَا كُنْتُ أَجِدُ مِنْ مَرَارَةِ فَقْدِهِ
وهنا عباد الله أود لفت الأنظار ليس إلى صبرها العجيب ولكن إلى خصلة عزت في زماننا، ألا وهي التفاعل العميق مع آي القرآن، فانظروا أيها الأحبة إلى هذا الالتحام مع كتاب الله واذكروا وامتثلوا في حياتكم قول النبي صلى الله عليه وسلم:
مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ
ثم من أقوالها التي تفوهت بها في ذلك الزمان وتدل على عمق رؤيتها ورسوخ علمها بل خلدت اسمها في تاريخ الأمة الإسلامية المشرق:
يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، خُذُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَأَنْتُمْ شَبَابٌ، فَإِنِّي رَأَيْتُ العَمَلَ فِي الشَّبَابِ
ويكفيها شهادةً لذلك ما شهد به علماءُ الحديث والمؤرخون وكبارُ التابعين من أنها محدثة ثقة حجة، وكيف لا وهي التي تعلمت على يد عائشة فاقتبست من معارفها وكذا من أخلاقها فرضي الله عنها وعن أمثالها وصلى الله على محمد وآله. اللهم اجعلنا على طريقتهم وانفعنا بمحبتهم واحشرنا في زمرتهم ولا تخالف بنا عن نهجهم ولا عن سنتهم اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اللهم كن لنا حيث كنا وارحمنا برحمتك الواسعة اللهم انصر ولي أمرنا وارفع شأنه كله وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه آمين والحمد لله رب العالمين.