Aâmra Bint Aberrahman

(إشراقات من تاريخ إسلامنا المجيد: عمرة بنت عبد الرحمن)

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمده تعالى حمد المعترف له بالنعمةِ والفضل ونشكره جل وعلا شكر المقر له بالمنةِ والآلاء ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو، دعا عباده المؤمنين إلى الجهاد في سبيله إلا أنه سبحانه وتعالى حذرهم من التهور في ذلك بأن نبههم إلى أخذ الحيطة والحذر من مغبة اشتغالهم بالجهاد وترك الجهل يستشري فيهم، فقال جل جلاله:

وَمَا كَانَ الْمُومِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

ونشهد أن نبينا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُ الله ورسوله شَدَّدَ على أهمية تكوين الفقهاء الذين يحفظون للأمة دينها ويوجهون الناس إلى ما فيه خيرهم فقَالَ صلى الله عليه وسلم:

مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَاللهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ

أما بعد فيا عباد الله، موعدنا اليوم في إطار تتبعنا لقدوة التابعين مع تابعيةٍ جليلةٍ أخرى، هي العالمة الفقيهة والمربية الكبيرةُ عَمْرَةُ بنتُ عبدِ الرحمن بنِ سعدِ بنِ زرارة الأنصارية النجارية؛ سيدةٌ عظيمة يقام لفضائلها وينحني الإنسان إجلالا لما تركته خلفها من فقه وسلوك وخلق، ولا أدل على ذلك من أن عمر بن عبد العزيز الخليفةَ الراشدَ رحمه الله تعالى كتب إلى قاضي المدينة أبي بكر بن محمد يقول له:

اُنظُرْ مَا كَانَ مِن حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ أَوْ سُنةٍ مَاضِيةٍ أَوْ حَدِيثِ عَمْرَةَ فَاكْتُبْهُ فَإنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ أَهْلِه

ولدت هذه الفاضلة في خلافة عثمان بن عفان  وتربت في حجر أمنا عائشة فأخذت عنها العلم الغزير وروت حديث رسول الله فبلغت في ذلك مبلغ الثقاة من العلماء المحدثين حتى شهد لها الإمام المحدّث سفيان بن عُيَيْنَة شهادةً قال فيها:

أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ثَلاثَةٌ: القَاسِمُ بْنُ محمدٍ بِنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

ومن أبرز من تعلم عندها وأخذ العلم عنها الإمام الزهري شيخ الإمام مالك ويحيى بن سعيد وعمرو بن دينار، أما الذين أثبتوا حديثها في مصنفاتهم فصاحبا الصحيح وأصحابُ السنن الأربعة وغيرهم. وقال القاسم بن محمد للزهري:

أَرَاكَ تَحْرِصُ عَلَى العِلْمِ، أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى وِعَائِهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: عَلَيْكَ بِعَمرَةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي حِجرِ عَائشةَ! قَالَ الزُّهْرِي: فَأَتَيْتُهَا فَوَجَدتُهَا بَحْرًا لَا يَنْضَبُ

فما شاء الله لا قوة إلا بالله والله أكبر ولله الحمدُ والشكرُ والفضلُ والمنة.

الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله وآله ومن والاه. عباد الله، إننا بدراستنا لسيرة هؤلاء الأفذاذ لنحتار إذ لا نستوعب كيف استطاعوا أن يصلوا إلى مثل هذه المستويات من العلم والفقه والدين ولم تكن لديهم الوسائل التي نتوفر عليها اليوم ولا العلمُ رائجٌ ولا منابعُه متاحةٌ كما نراها في عصرنا. والجواب عن هذا السؤال أن أمثال عَمرةٍ أدركوا ما أدركوا بفضل معية الله لهم. وهذه المعية لا تدرك محاباة وإنما بالكد والاجتهاد وتمثل الإحسان في سائر الأحوال والأزمان. قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ

وَعَمْرَةُ بنتُ عبدِ الرحمن حُقَّ لها أن تكون من ضمن هؤلاء المهديين الفائزين بمعية الله وهي الثقة الحجة التي شهِد لها غيرُ واحد من كبار علماء ومحدثي هذه الأمة بالصلاح والحفظ الكثير والعلم الغزير خصوصا وأن الحبيب المصطفى  يقول:

أَنْتُمْ شُهُودُ اللهِ فِي الأَرْضِ

هذا ولا نزكيها على الله تعالى ولكن كيف لا تكون كذلك وهي التي ترعرعت في بيت الطاهرة المطهرة أمِّ المؤمنين عائشةَ فنشأت على العلم والتقوى. فلا عجب أن تقتبس من شمائلها وأن تصبح عالمةَ المدينة وفقيهتَها المتميزة. أخرج البخاري أن يحيى بن سعيد كان يذكر حديث عَمْرة للقاسم بن محمد فيقول له: أتتك والله بالحديث على وجهه. ومما خصها الله به من مزايا ذكاؤُها وهمُّ حمل الدعوة وقد تجلى ذلك حين كتبت إلى الحسين بن علي تُعظِّم عليه ما يريد أن يصنع وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة وتخبره أنه إنما يُساق إلى مصرعه وتقول: أشهد لَحَدَّثتني عائشة أنها سمعت رسول الله يقول: يُقتل حسين بأرض بابل، فلما قرأ كتابها قال رضي الله عنه: فلا بد لي إذن مِن مصرعي، فرضي الله عنها وعن أمثالها آمين وصلى الله على محمد وآله اللهم اجعلنا على طريقتهم وانفعنا بمحبتهم واحشرنا في زمرتهم ولا تخالف بنا عن نهجهم ولا عن سنتهم اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اللهم كن لنا حيث كنا وارحمنا برحمتك الواسعة آمين اللهم انصر ولي أمرنا وارفع شأنه كله وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه آمين والحمد لله.