(إشراقات من تاريخ إسلامنا المجيد: أم الدرداء الصغرى، جهيمة بنت حيي)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، نحمده تعالى حمدا لا ينبغي إلا له ونشكره جل وعلا شكرا لا يليق إلا به ونشهد أنه الله، لا رب لنا سواه ولا معبود بحق إلا هو، أنثى على صحابة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ثم على من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين فقال سبحانه وتعالى وهو دائما أصدق القائلين:
وَالسَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُ الله ورسوله لم يتردد في تخصيص يوم للنساء يعظهن فيه ويعلمهن أمور دينهن وما يحتجن إليه في حياتهن، ففي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وغيرهما عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاجْعَلْ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ فَوَاعَدَهُنَّ عليه الصلاة والسلام مِيعَادًا فَأَمَرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ وَكان مما قَالَ لهن:
مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ يَمُوتُ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ أَوِ اثْنَانِ: فَإِنَّهُ مَاتَ لِي اثْنَانِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوِ اثْنَان
أما بعد فيا عباد الله، مسيرتنا مع التابعين تمر بنا اليوم على امرأةٍ عالمة فقيهة هي سيدةٌ من سيدات التابعيات اللاتي رسمن تاريخ الإسلام المشرق بماء من ذهب وذلك بموجب ما تميزن به في حياتهن من كثرةِ علم ورفعةِ خلق وسموِ سلوك. إنها أم الدرداء الصغرى واسمها هُجَيْمَةُ بِنْتُ حُيَيْ الأَوْصَابِيَّةُ الحِمْيَرِيَّةُ الدمشقية التي روت علما وافرا عن زوجها أبي الدرداء وعن سلمان الفارسي وعائشة وأبي هريرة. وإنما كنيت بالصغرى لأن أم الدرداء الكبرى هي الصحابية الجليلة خيرة بنتُ أبي حدرد، زوجُ أبي الدرداء الأولى. أما بطلتنا فقد عرضت القرآن وهي صغيرة على أبي الدرداء ثم طال عمرها فاشتهرت بالعلم والعمل وبالزهد ومن أبرز من حدث وأخذ العلم عنها رجاءُ بن حيوة ومكحول وزيد بن أسلم وأبو حازم الأعرج. وقيل إنها كانت يتيمة في حجر أبي الدرداء، تختلف معه في برنس تصلي في صفوف الرجال وتجلس في حلق القراء تتعلم القرآن حتى قال لها أبو الدرداء يوما : الحقي بصفوف النساء. فالله أكبر ولله الحمد والمنة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، عباد الله إن الله تبارك وتعالى سوى في الدرجة بين العالمِ المُعَلِّمِ و بين القانتِ الناسك فقال جل في علاه:
أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَلْبَابِ
ولعل أمَّ الدرداء الصغرى من هذا الصنف العظيم من عباد الله العلماء القانتين فقد كانت رحمها الله تطلب العلم وتبذله للناس ثم لا تتوانى في لزوم مجالس الذكر والاعتكاف في المسجد من أجل عبادة الله. فعن عون بنِ عبد الله قال:
كنا نجلس إلى أم الدرداء فنذكر الله عندها، فقالوا: لعلنا قد أمللناك، فقالت تزعمون أنكم قد أمللتموني، فقد طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت شيئا أشفى لصدري ولا أحرى أن أصيب به الذي أريد من مجالس الذكر
وكان عبد الملك بن مروان لا يتأخر في الأخذ عنها والجلوس إليها ليستفيد منها وذات يوم دعا خادما له فأبطأ عليه فلعنه، فقالت له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فلم تتردد رحمها الله في نهي الخليفة عن المنكر رغم سلطانه الذي كان فيه وهبته التي كان يتمتع بها! ثم إنها كانت صاحبة خلقٍ أهلها للاهتمام بأمر المسلمين والتواضع لهم وخدمتهم عند الحاجة ويروى من ذلك الكثير، وكيف لا تكون كذلك وهي التي روت عن زوجها أبي الدرداء الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ
ولم يمنعها زهدها ولا علو علمها من التفاني في الوفاء لزوجها حتى قالت اللهم إن أبا الدرداء خطبني فتزوجني في الدنيا اللهم فأنا أخطبه إليك فزَوِّجْنِيهِ في الجنة فقال لها، إن أردت ذلك وكنتُ أنا الأول فلا تزَّوجي بعدي! فمات رضي الله عنه فخطبها معاوية فأخبرته بالذي كان فقال لها عليك بالصيام، فرضي الله عنها وعن أمثالها آمين وصلى الله على محمد وآله اللهم اجعلنا على طريقتهم وانفعنا بمحبتهم واحشرنا في زمرتهم ولا تخالف بنا عن نهجهم ولا عن سنتهم اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم انصر ولي أمرنا وارفع شأنه كله وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه آمين والحمد لله.