(إشراقات من تاريخ إسلامنا المجيد: أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها)
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى حمدا لا نحمده أحدا سواه ونشكره جل وعلا شكرا لا ينبغي لأحد غيره، فاللهم لك الحمد ولك الشكر، نشهد أنك الله لا إله إلا أنت، لا رب لنا سواك ولا معبود بحق إلا أنت، أثنيت على صحابة نبيك الأمين وخصصت بالذكر منهم الأنصار والمهاجرين فقلت في محكم تنزيلك المبين:
وَالسَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُه ورسوله رفع من شأن الأنصار أيما رفع حتى ربط بين حبهم ورسوخ الإيمان فقال كما في الترمذي بسند صحيح:
لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ فَأَحَبَّهُ اللهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَأَبْغَضَهُ اللهُ، لَوْ سَلَكَ الْأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَكُنْتُ مَعَ الْأَنْصَارِ
أما بعد فيا أيها الأحبة الكرام، نتابع بفضل الله في هذه الخطبة ذكر أئمة الأنصار مقتفين القدوة وآخذين الأسوة. وموعدنا اليوم مع صحابية جليلة أخرى هي أخت تلك التي تعرفنا عليها في الأسبوع الماضي وهي أم سليم واسمها الرميصاء والناس تخلط بين الأختين من منهما تسمى الرميصاء؟ ولكن المهم عندنا هو أن هذه الصحابية أنصارية نجارية خزرجية من بنات أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنها أم أنس بن مالك خادم رسول الله الوفي. كانت داعيةً واعية ومجاهدةً صادقة وزوجةً مخلصة ومربيةً فذة ارتقت سلم المجد فَبُشِّرَتْ بالجنة. فعن أنس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْفَةً، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الْخَشْفَةُ؟ فَقِيلَ: الرُّمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ
أسلمت أم سليم رفقة أختها قبل الهجرة وكان ذلك في غياب زوجها مالك بن النضر فلما رجع حاول أن يردها عن إسلامها فأبت عليه فلما يئس منها خرج إلى الشام غاضبا فمات هناك. ولم تلبث أن تقدم إليها أبو طلحة زيدُ بن خالد الأنصاري لخطبتها وكان لم يسلم بعد فردته ردا جميلا بسبب شركه رغم ما كان يتوفر عليه من مال وما كان معروفا به من كرم وشجاعة ومروءة وقالت له أما إني فيكَ لراغبة وما مثلك يرد ولكنك رجل كافر فإن تسلم فذاك مهري، لا أسألك غيره، فأسلم رضي الله عنه وعنها وتزوجها فكان مهرها أعظم مهر في الإسلام فسبحان الله، أي طينة من البشر هذه؟ والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، عباد الله لقد قلنا عن أم سليم إنها كانت داعيةً واعية ورأينا كيف دعت أبا طلحة إلى الإسلام ثم إنها كانت مجاهدةً صادقة وزوجةً مخلصة ومربيةً فذة. فأما جهادها فقد تمثل في مشاركتها في عديد من الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم عن أنس قال:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى
ويوم حنين اتخذت لنفسها خنجرا فقال أبو طلحة: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر! فقالت: يا رسول الله إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه. وأما كونها مربيةً فذة فحسبها أنها أم أنس وما أدراك ما أنس! أخذته حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذهبت به إليه وكان ابنَ عشر سنين فقالت: يا رسول الله هذا أنس خادم يخدمك فخدمه عشر سنين إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. ثم إنها أم البراء بن مالك المجاهد المغوار والشهيد الحميد والمؤمن التقي مستجاب الدعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ
أما وصفها بالزوجة الصالحة فبموجب احتسابها ورضاها بقضاء الله ورعايتها لمشاعر زوجها. وإليكم القصة التي تبرهن عن كل ذلك. عن أنس رضي الله عنه قال:
ثَقُلَ ابْنٌ لأُمِّ سُلَيْمٍ فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى المَسْجِدِ فَتُوُفِّيَ الغُلاَمُ فَهَيَّأَتْ أُمُّ سُلَّيْمٍ أَمْرَهُ، فلما رَجَعَ سَيَّرَتْ لَهُ عَشَاءهُ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ! أَلَمْ تَرَ إِلَى آلِ أَبِي فُلاَنٍ اسْتَعَارُوا عَارِيَّةً فَمَنَعُوْهَا وَطُلِبَتْ مِنْهُم، فَشَقَّ عَلَيْهِم؟ فَقَالَ: مَا أَنْصَفُوا. قَالَتْ: فَإِنَّ ابْنَكَ كَانَ عَارِيَّةً مِنَ اللهِ فَقَبَضَهُ، فَاسْتَرْجَعَ، وَحَمِدَ اللهَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهُ، قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا.فَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَلما وَلَدَتْ أَرْسَلَتْ بِالمَوْلُودِ مَعَ أَبِيهِ إِلَى النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم فَحَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ
قَالَ أحد رُوَّاةِ هذه القصة فَلَقَدْ رَأَيْتُ لِذَلِكَ الغُلاَمِ سَبْعَ بَنِيْنَ كُلُّهُمْ قَدْ خَتَمَ القُرْآنَ فرضي الله عن أم سليم وصلى الله على سيدنا محمد. اللهم انفعنا بمحبة أحبائك واحشرنا في زمرتهم ولا تخالف بنا عن نهجهم. اللهم إن الغيث قد تأخر وأنت تعلم حاجتنا الماسة إليه فأغثنا يا الله. اللهم انصر ولي أمرنا وارفع شأنه كله وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.