(لأن يهدي الله على يدك)
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى حمد الحامدين المخلصين ونشكره جل وعلا شكر الشاكرين الصادقين ونشهد أنه الله ولي المتقين، لا رب لنا سواه ولا معبود بحق إلا هو، أفصح لنا سبحانه عن أسمى وظيفة يمكن أن يتقمصها الإنسان فقال جل جلاله:
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
ثم إنه سبحانه وتعالى بين لنا الأخلاق التي ينبغي أن يكون عليها الداعي إليه فقال:
لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلّاَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلّاَ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُ الله ورسوله، أمر المجاهدين في سبيل الله بالتريث عن المداهمة وعدم الإقدام على القتال إلا بعد استنفاد سبل الإقناع و بالإمعان في العمل على دعوة العدو إلى ما فيه خيره فقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر:
لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ، فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا، فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ
أما بعد فيا أيها البررة الكرام، كثر في هذه الأيام الكلام عن الجهاد حتى عاد يتبادر إلى أذهان الناس عند ذكر هذه الكلمة تلك الأفكار التي تصوره مصدرا لضرب الآمنين وتفجير البنات والبنين وحرق الأسرى والمحتجزين، بينما النصوص التي قدمنا بها للخطبة تخالف تماما هذه الصورة التي ما فتئت تسيء للمسلمين فضلا عن الدين. إن رسول الله صلى اللع هليه وسلم حين وجه عَلِيّاً لقتال يهود خيبر لم يأمره باستئصالهم ولا بمباغتتهم ولا بتفجير الدنيا من حولهم وإنما أوصاه بالتريث وذَكَّرَهُ بالهدف الذي من أجله شُرِعَ الجهاد وهو إفساح المجال أمام الناس حتى يتوبوا إلى الله تعالى فيكونوا في زمرة المسلمين المتقين. فالمسلم الذي يُنَصِّبُ نفسه داعيا لله لا يتخذ من العنف وسيلة للوصول إلى مبتغاه، بل يتسلح بالأخلاق الرفيعة التي تمكنه من إعطاء الصورة اللائقة بالدين الذي يمثله والعقيدة التي يحملها. قال تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
فاللهم أبعد عنا الفظاظة وغلظة القلب وسلحنا بالعفو والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله وآله ومن والاه. إن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبرنا في حديثه أن المسلم إذا كان سببا في هداية رجل واحد رَبِحَ أحسنَ ما في الدنيا فقد جاء في بعض الروايات قولُه صلى الله عليه وسلم لعلي وكان قد عقد له لواءً إلى اليمن:
لأَن يَهْدِيَ اللهُ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ
وهنا أود طرح سؤالٍ قليلا ما نفكر فيه رغم أهميته: إذا كان هذا هو الأجر الذي يدخره الله تعالى لهادي الناس إلى الخير فما هو يا ترى الوزر الذي يتحمله من يكون سببا في إضلال الناس؟ إن إضلال الناس يمكن أن يقع بأدنى سبب، كأن تخون الأمانة أو تتصرف تصرفا لا يليق فيُلْصِقُهُ من يراه بالدينِ الذي تمثله والعقيدةِ التي تحملها فيكرههما ويبتعد عنهما فيدخل النار بسببك! أليس هذا عارا؟ نحن مطالبون بأخذ الأسوة من الأنبياء وخصوصا أبينا إبراهيم الذي قال فيه تعالى:
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أتدرون ماذا قال إبراهيم حين اختلف معه قومه فعادوه وخاف أن يؤديَ ذلك إلى إضلالهم؟ لقد دعا ربه بأن لا يكون فتنة لأعدائه لأنه كان يريد لهم الخير فقال:
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ومثلها قال موسى وقومه الذين اتبعوه على هديه عليه السلام:
عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
هكذا أيها الإخوة ينبغي للمسلمين أن يكونوا؛ محبين أصلا للخير لكل من يلقونه من الناس، لا متشوفين للإلقاء بهم في النار بأي وسيلة كانت لمجرد أنهم يخالفونهم الرأي أو يبدون لهم بعض العداوة. إن المسلم إذا عاداه الناس فعليه أن يبحث عن الخلل في نفسه قبل أن يتوجه لإلقاء التهمة على غيره تماما كما فعل إبراهيم عليه السلام:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
اللهم اعصمنا من الزلل واكفنا الخَلَل وألبسنا الحُلَل وأبعد عنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطن. اللهم أعنا ذكرك وشكرك وحسن عبادك وصل اللهم على نبينا الأمين وآله وصحبه أجمعين رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين. اللهم انصر ولي أمرنا وارفع يا رب رايته وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.