(استقبال العام الجديد)
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى حمد من يعترف له بالنعمة ونشكره جل وعلا شكر من يقر له بالفضل ونشهد أنه الله، لا إله إلا هو، دعا البشرية إلى الاعتبار بما وقع في ماضيها من أحداث وأحوال فقال سبحانه وتعالى في خاتمة سورة غافر:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاَرضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِي الاَرضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُ الله ورسوله، وعظنا أبلغ موعظة حين أخذ بمنكب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال له صلى الله عليه وسلم: يا ابن عمر،
كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ
فكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ جَرَّاءَ ذَلِكَ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ
لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِك.
وهذا أيها الإخوة الكرام هو عين الصواب إذ هو مصداق قول ربنا تبارك وتعالى لنبيه الكريم:
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
لقد فهم ابن عمر رضي الله عنهما وصية الحبيب فهما تاما فلم يتأخر في الأخذ بزمام أمره فما بالنا نحن؟ تمر الأعوام وتتجدد وبالأمس القريب ودعنا سنة واستقبلنا أخرى ناظرين إلى نهاية هذه الأخيرة نظر البعيد إلا أن الملاحظ أن سرعان ما ستنصرم أيامها وشهورها وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت. يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك فعَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويذَرون العمل لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة! لقد ضربتِ الدنيا في قلوبنا بسَهم، ونصبَت في قلوبنا رايات، ليلُنا ونهارُنا في حديثٍ عن الدنيا: كم نَربح؟ كيف نجمَع؟ إن ضُرِب موعِدٌ للدّنيا بادرنا إليه مبكِّرين، وأقمَنا عند بابه فرِحين، ولا نُبقي للآخرة في قلوبنا إلاّ ركنًا ضيِّقًا وذِكرًا قصيرًا. هذه مساجدنا تشكو من قلة زوارها ومعمريها بينما مقاهينا مملوءة عن آخرها وأسواقنا تئن تحت ضغط مرتديها فأين نحن من كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل؟ والله المستعان والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه. لو كنا نعتبر أنفسنا غرباء في الدنيا لتقللنا من زادها ولقصَّرنا الآمال ولاستكثرنا من زاد الإيمان. لو اعتبرنا أنفسنا عابري سبيل كما وصانا بذلك الحبيب لكان حديثنا المفضل قرآن ربنا وهمنا الأكبر التسابق إلى فعل الحسنات إدراكا منا بأن اليوم الذي يمضي لن يعود والخير الذي كان بإمكاننا فعله فيه ميئوس منه ورحم الله معاذ بنَ جبل الذي فهم هذه المعاني الساميةَ وأدركها حق الإدراك فقال وهو على فراش الموت:
اللهمّ إنّك تعلم أني لم أكن أُحبُّ البقاءَ في الدنيا ولا طولَ المكثِ فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنتُ أحبّ البقاءَ لمكابدةِ الليل الطويل وظمَأ الهواجر في الحرّ الشديد ولمزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَق الذِّكر
إن عابر السبيل لا يدنّسُ نقاءَ نهاره بآثامه ولا يقصِّر ليلَه بغفلته وعميق نومه فإن دُعي إلى الطاعةِ أجاب وإن نودِي إلى الصلاة لبّى لتيقنه من أنَّ مَن أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه أو فَرضٍ أدّاه أو مَجدٍ أثَّله أو حمدٍ حصَّله أو خير أسَّسه أو عِلم اقتبسه فقد عقّ يومَه وظلَم نفسَه. فلا تترك ضغطَ الدنيا يحول بينك وبين الخُلوة مع نفسك والحديث إليها بما يرضي ربها. اغتنم توديعك للسنة الماضية واستقبالك هذه لمحاسبة نفسك ولجرها جرا إلى فعل الخير وإياك أن تحقر ذنوبك أو تستصغرها فليس في الذنب صغير ولا في الإثم حقير. بادر إلى التوبة ولا ترض لنفسك من القول والعمل والمنصب والشرف ما لا يرضاه الناس لك. لا تترك لهم مجالا يتكلمون فيه عن حرصك على الدنيا بل كن شهما ودع عنك الاعتصام بحبلها فإنه قصير يوشك أن ينقطع. ليكن همك سلوكُ سبل مرضات الله؛ ازرع الخير بأعمالك واغرِس الفضل بكلامك وانثر العطر بأفعالك وانبذ الشر والسوء والأذى لإخوانك. وابدأ عامَك الجديدَ بهمّة عاليةٍ وعزيمة وقّادة. اللهم اعصمنا من الزلل واكفنا الخَلَل وألبسنا الحُلَل وأبعد عنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطن. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وصل اللهم على النبي. اللهم انصر ولي أمرنا وارفع يا رب شأنه كله وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.