(اشراقات من تاريخ إسلامنا العظيم: زيد بن ثابت رضي الله عنه)
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى حمدا لا نحمده أحدا سواه ونشكره جل وعلا شكرا لا ينبغي لأحد غيره ونشهد أنه الله، لا إله إلا هو، لا رب لنا سواه ولا معبود بحق إلا هو، أخبرنا أن القرآن الكريم ميسرٌ حفظُه وجمعُه والعملُ به لكل من أراد ذلك وأحبه وعكف عليه فقال جل وعلا في أربعة مواضعَ من سورة القمر:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وإمامنا محمدا عبدُه ورسوله جاءه قومٌ عليهم علاماتُ الفقر المدقع فقام صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس داعيا إياهم إلى الإنفاق عليهم فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حتى رُئِيَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فقال عليه الصلاة والسلام:
مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ
أما بعد فيا أيها الأحبة الكرام، إنني كلما تلوت الآية السالفة الذكر أو قرأت هذا الحديث النبوي الشريف إلا وراج في ذهني بقوة اسمُ الصحابي الجليل والأنصاري العظيم والإمام الكبير والعالم الفريد والمقرئ المحنك زيدِ بن ثابت كاتبِ رسول الله وناسخِ كتاب الله الذي أبلى شبابه في تعلم القرآن وأعي بصره في كتابة آياته وأفنى عمره في تطبيق أحكامه وتمرير فرائضه. عُدْتُ بكم معشر الأحبة الكرام إلى اقتفاء القدوة من خلال ذكر هذا الفذ من بين الأفذاذ والذي انحدر من قبيلة الخزرج عسى أن نتعرف عليه فننهل من معين سيرته العطرة. زيدُ بن ثابت نجمٌ ساطعٌ لا يَأْفُلُ أبدا فهو شيخُ المقرئين ومفتي المدينة على عهد عمر. فكيف يأفُل نجمه وأجر كل مفتٍ يأخذ بفتاواه يكتب في صحيفته. كيف يَغِيب نجمه وأجر كلِّ مقرئ بل كلِّ تال لكتاب الله له فيه نصيب دون أن ينقص من أجر المقرئ أو التالي شيء. إنك أيها الأخ المسلم الكريم كلما تلوت حرفا من كتاب الله تعالى تعبدا إلا وأجَرَكَ الله عليه حسنة والحسنةُ بعشر أمثالها ولكن فضل الله لا يتوقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى زيدٍ الذي نسخ القرآن بيده فمكنك من تلاوته فيُؤْجَرُ بمثل أجرك دون أن ينقص من أجرك شيء فالله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، لقد أسلم زيدٌ مبكرا ولم يكن عمره عندئذ يتجاوز الحادية عشرة فما أن لقيه الرسول بعد هجرته فعرض عليه بعض القرآن حتى رأى فيه ما رأى من الذكاء والفطنة فقال له:
تَعَلَّمْ كِتَابَ الْيَهُودِ فَإِنِّي لا آمَنُهُمْ عَلَى كِتَابِنَا، قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي خَمْسَةَ عَشَرَ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقْرَأُ كُتُبَهُمْ إِلَيْهِ
وفي صحيح ابن حبان والمستدرك أن زيدا أخبر يوما بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
أَتُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَتَعَلَّمْهَا فَإِنَّهُ تَأْتِينَا كُتُبٌ، قَالَ: فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةِ عَشَرَ يَوْمًا
قَالَ الأَعْمَشُ: كَانَتْ صلى الله عليه وسلم تَأْتِيهِ كُتُبٌ لا يَشْتَهِي أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا إِلا مَنْ يَثِقُ بِهِ. قلت وزيدٌ كان ممن يثق به الرسول وإلا لما كلفه بنسخ القرآن ولما أوصى بأخذه عنه، فعنه رضي الله عنه قال: كُنْتُ جَارَ النبي صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بَعَثَ إِليَّ فَأَكْتُبُ الْوَحْيَ. ثم إن أبا بكر قال له حين ولي الخلافة: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتَتَبَّعِ القرآن فاجمعه فكانت النتيجة أن تتبعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال إلى أن جاء عهد عثمان فطلب من زيد مرة أخرى أن يتولى كتابته ونسخه فأبلى في ذلك البلاء الحسن وذلكم هو المصحف الإمام الذي عنه تُنسخ المصاحف إلى يومنا هذا. ومن مناقبه رضي الله عنه أنه قرأ القرآن كاملا على النبي، وأخذه عنه غير واحد من الصحابة أمثالُ ابنِ عباس وابنِ عمر ومن التابعين أشهرهم أبو عبد الرحمن السلمي. ثم إنه كان من حملة الحجة إذ كان عمر يستخلفه على المدينة إذا غاب عنها وعن الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين، الفرائض والقرآن وقال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت، فرضي الله عنه وأرضاه وجعلنا ممن يقتدي به في علمه وفقهه وفي سن السنن الحسنة التي نؤجر بها وبأجر كل من عمل بها إلى يوم القيامة وصلى الله على سيدنا محمد وآله. اللهم انفعنا بمحبتهم واحشرنا في زمرتهم ولا تخالف بنا عن سنتهم ولا عن نهجهم. وانصر اللهم ولي أمرنا. اللهم ارفع شأنه كله وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده وسائر أفراد أسرته وشعبه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ويرحم الله عبدا قال آمين.