إشراقات من تاريخ إسلامنا المجيد (خديجة)
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى حمدا لا نحمده أحدا سواه ونشكره جل وعلا شكرا لا ينبغي لأحد غيره ونشهد أنه الله لا إله إلا هو، بين المنزلة التي ينبغي أن تحتلها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين فقال جل شأنه وعز جاره:
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ
ونشهد أن نبينا وحبيبنا محمدا عبدُه ورسوله أتاه جبريل ذات يوم فقال:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ
لعل هذه الواقعةَ هي التي سوَّت في الفضل بين أمنا خديجة ومريمَ ابنة عمران. قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح:
خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ
أما بعد فيا أيها الإخوة البررة الكرام لا زلنا كما تواعدنا بذلك نقتفي القدوة تلو القدوة، وموعدنا اليوم بعد قدوة الحبيب، الذي بهرنا بتفانيه في التجرد من طلب المنفعة لنفسه، مع قدوة أمنا خديجة التي تفانت في خدمة زوجها فكانت له الركن الركين الذي يركن إليه والسند الكبير الذي يستند عليه في تبليغ دعوة ربه والعمل على إرضاء سيده، ولا أدل على ذلك من تلك الكلمات الذهبية التي تفوهت بها حين أتاها صلى الله عليه وسلم مفزَعا بعد مجيء الوحي إليه حيث قالت له وكان قد أسر إليها بأنه خائف على نفسه:
كَلَّا أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ
لم تزد خوفَه رعباً ولا غمَّه هماً، بل قالت قولتَها المشهورةَ تلك فاطمأن فؤاد الحبيب. ثم استطاعت بحنانها كشف كلِّ الغم عنه وبصفاء سريرتها إعلاءَ همته وبعقلها إحسان توجيهه وبمالها رفع الضيق عنه. كانت بنت خويلد عنوانَ الفضل اجتمع فيها ما تفرق في غيرها؛ تَمَثَّلَ فيها الصبر في أبهى حلله والحلم في أجمل صوره والإيمان في أقوى مواقعه والثبات في أعلى رسوخه ثم كانت مثال الجود والسخاء وبغية الخير للناس. كانت لا ترد لرسول الله طلبا بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه فرضي الله عنها وأرضاها وجعلنا في جوارها وجوار حبيبها آمين والحمد لله.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله وآله ومن والاه. عباد الله، يذكر أن النبي جلس مع خديجة ذات يوم قبل البعثة فاستأذنت عليه مرضعته حليمة، فخفق قلبه الشريف حنانا فلم يبرح أن استقبلها بقوله أُمِّي أُّمي ثم سألها عن حالها فشكت له قسوة الحياة والجدب الذي كان قد حل بها وبأهلها فما لبثت حتى تدفقت كنوز فؤادِ بنتِ خويلد بالعطف والرحمة والجود والكرم، فعادت حليمة إلى أهلها بأربعين رأساً من الغنم وبعيراً يحمل لها الماء وزاداً يكفيها وذويها لعدة أيام. هكذا كانت خديجة ولما رأت حب النبي لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه ولم تتردد حتى كان صلى الله عليه وسلم لا يفتر عن ذكر فضلها، فعن عائشة:
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَحْسَنَ عَلَيْهَا الثَّنَاءَ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْهَا وَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهَا خَيْراً؟ قَالَ: مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهَا خَيْراً مِنْهَا، صَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهَا الْوَلَدَ إِذْ لَمْ يَرْزُقْنِي مِنْ غَيْرِهَا
كانت خديجة أول المؤمنين والمؤمنات تقدمت في الإيمان بالله على أبي بكر وعلي فحازت قصب السبق في اتباع الحبيب وتصديقِه، فكانت صِدِّيقةً بكل ما تحمل هذه الكلمةُ من معنى!
وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
لا نشك أن هذه الآية تنطبق على أمنا خديجة تماما كما تنطبق على أبي بكر وكل من سار على هديهما إلى يوم الدين. ضحت خديجة بكل ما كان لديها في سبيل الله وعاشت أيام الحصار الذي فرضته قريش راضية مرضية محتسبة حتى جاء الفرج من الله ولكن خديجة لم تلبث إلا قليلا حتى لبَّت نداء ربها فحزن نبي الله عليها كما لم يحزن على أحد قبلها ولا بعدها. ماتت بنت خويلد ولم يمت ذكرها وذكر وفائها وصبرِها وبرِّها فلا غرو أنه يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمُّنا، فيا ليت كلَّ الأمهاتِ مثلُها طهرا وحبا وحلما وصبرا اللهم صل على سيدنا محمد اللهم انفعنا بمحبته واحشرنا في زمرته ولا تخالف بنا عن سنته اللهم انصر ولي أمرنا اللهم ارفع شأنه كله وأصلح به وعلى يديه ووفقه للخير وأعنه عليه وأقر عينه بولي عهده والحمد لله رب العالمين.