دروس وعبر من فتح مكة
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى كما ينبغي لجلاله وجهه وعظيم سلطانه ونشكرهُ جل وعلا كما يليق بوافر عطائه وكريم آلائه ونشهد أنه الله آذن حبيبه المصطفى بالرحيل عن الدنيا فأنزل عليه سورة النصر قائلا فيها:
إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
ونشهد أن نبينا وحبيبنا محمدا عبدُه ورسوله لَمَّا نَزَلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دَعَا صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ رضي الله عنها، فَقَالَ لها:
قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي فَبَكَتْ، فَقَالَ، لَا تَبْكِي، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لِحَاقًا بِي فَضَحِكَتْ
أما بعد، فيا أيها الإخوة البررة الكرام في مثل هذا اليوم من كل سنة هجرية تحل بنا ذكرى فتح مكة، حيث وقع في رمضان وفي فاتحة العشر الأواخر منه. وقصة هذا الفتح مبسوطة في كتب السيرة فلا نحتاج إلى تفصيلها في خطبة الجمعة بقدر ما نحتاج إلى ذِكر بعض معالمها ثم الوقوفِ عند دروسٍ يمكننا استخلاصها منها. إن سبب فتح مكةَ الأول كان هو الغدر الذي قامت به قريش حين لم تف ببند من بنود الصلح الذي وقعته مع الرسول صلى الله عليه وسلم سنتين قبل تحرك جيش المسلمين صوب مكة المكرمة لفتحها. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المسلم لا يتهاون مع الخداع والكذب والخيانة وهو الأمر الذي وقف عليه جليا أبو سفيان لما توجه إلى المدينة المنورة ليطلب تجديد الصلح من نبي الله فلم يجد إلا الجفاء ليس فقط من أبي بكر وعمر وعلي الذين كانوا من ألد أعدائه بل حتى من فلذة كبده أم المؤمنين أم حبيبة فرجع إلى قومه يجر ذيل الخيبة قائلا لهم جئتكم من عند قوم قلوبهم على قلب واحد؛ والله ما تركت فيهم صغيرًا ولا كبيرًا ولا أنثى ولا ذكرًا إلا كلمته فلم أَصِبْ منهم شيئًا. فهذا هو الحزم الذي نحتاج إليه اليوم أيها الإخوة فلو عرف أعداء الله أن المسلمين لن يقبلوا بضيم أبدا ولن يرضوا البتة باعتداء عليهم، لو عرفوا ذلك لما تجرؤوا على قتلهم يحدث في هذه الأيام في شتى بقاع الأرض وفي غزة المحاصرة على وجه الخصوص ولكن أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب ولا حول ولا قوة إلا بالله والحمد لله.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الله وآله ومن والاه. من الدروس التي نتعلمها من فتح مكة توكله صلى الله عليه وسلم على الله إذ نجده صلى الله عليه وسلم يدعو ربه عز وجل أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش ليتمكن من مفاجأتها في بلادها دون أن يمنعه ذلك من بعث سرية بقيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن إضم ليظن الناس أنه يتوجه إلى تلك الوجهة فتذهب بذلك الأخبار ولا تصل حقيقة ما أراد إلى عدوه. وهذا تطبيق جلي لقول الله تبارك وتعالى في آل عمران:
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ
ثم هناك درس عظيم ثالث، ألا وهو درس العفو الذي ظهر منه ليس فقط عندما قال صلى الله عليه وسلم قولته الشهيرة اذهبوا فأنتم الطلقاء ولكن أيضا مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي حاول إخبار قريش بمقدم جيش النبي ولما انفضح أمره وأراد عمر رضي الله عنه أن يضرب عنقه لخيانته قال له صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وصدق الله العظيم حين قال في حقه صلى الله عليه وسلم إنه بالمؤمنين رؤوف رحيم فبكى عمر رضي الله عنه وقال الله ورسوله أعلم. ودرس العفو لم يقف عند هذا الحد فثمة مشاهد أخرى تدل عليه يمنعنا ضيق الوقت من إيرادها وإنما نعرج على دروس أخرى كدرس التواضع لله حين لم تأخذه نشوة النصر بل طاف، عند دخوله مكة، مطأطئا رأسه حامدا ربه، ثم درس الوفاء في قصة مفتاح الكعبة وردِّه لصاحبه الأصلي عثمان بن طلحة، قائلا له:
خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ
فاللهم قو إيماننا ويسر الهدى لنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، سدد خطاه وثبت مسعاه، اللهم املأ قلبه بالإيمان ومنطقه باليقين واجعل فكره عامرا بذكرك. اللهم وأقر عينه بصلاح ولي عهده وطاعة أسرته وحب شعبه آمين وصل اللهم وسلم على محمد الأمين والحمد لله رب العالمين.