أبو بكر (الجزء الثاني)
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى على عميم فضله ونشكره جل وعلا على جزيل إحسانه ونشهد أنه الله نوه بالصديق ووصفه بالتقوى فقال:
وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
ونشهد أن سيدنا محمداً رسولُ الله بدعوته قامت للدين أركانُه وبعطاء الصديق استمرت للأمر مسيرتُه فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أن النَّبِيَّ خَطَبَ فَقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ.. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْعَبْدَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ.. إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ
لا زلنا أيها الأحبة نحاولُ التحليق في سماء عظمة هذا العظيم إذ لم يشهد التاريخ قط رجلاً اشتد بالله عزمه وصدق إيمانه كما شهِد في أبي بكر وأمثاله من أصحاب محمد آمن بنبيه فنصره واتبع النور الذي أُنْزِلَ معه فهو خليفتهُ الأولُ والمؤمنُ به. سبق إلى الإيمان ولازم الصحبة واختص بالمرافقة فهو بذلك أحق من لقب بالعتيق ومن سره فعلا أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر. كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ
ويزداد الأمر وضوحاً حين يقول:
مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أبو بكر الطيب النحيف اللطيف ذو السمت الحَسَن والسلوك المستقيم والخلق الرفيع يُسأل يوما لماذا لم تشرب الخمر في الجاهلية فيقول:
كُنْتُ أَصُونُ عِرْضِي وَأَحْفَظُ مُرُوءَتِي
لقد بلغت به نفسه قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس والمسارعة إلى الخيرات وترك ساقط الأمور ودرء سوء الخلق ونبذ مُشين التصرف كان إذا مدحه مادح قال:
اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ وَلَا تُؤَاخِذنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ
كان رضيالله عنه سريع التأثر بمآسي من حوله.. له طموح عجيب إلى المثل العليا.. يسابق إلى الخير ويبادر إلى البر والإحسان ويجري وراء مواساة ذوي الحاجة. قَالَ صلى الله عليه وسلم يوما:
مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ
رضي الله عنك وعن سائر الصحابة يا أبا بكر وجمعنا بك في الجنة بجوار سيدنا محمد، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي رفع من قدر أولي الأقدار والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأبرار. وإن أردتم أيها الإخوة مزيداً من سيرة هذا الرجل القدوةِ المبارك، قلنا إنه لم يتخلف قط عن رسول الله ولم تُذكر له قط هزيمة في رخاء كان أو في الشدة ولا ثبت أحد حيث يصعب الثبات إلا وكان هو أولَ الثابتين. كان أرحمَ الناس وأحناهم عليهم ورغم هذه الرحمة وهذا الحنان لم يتردد في الصدع بالحق وقتال أهل الردة في وقت كان الجميع يتوقع منه أن يتسامح في الأمر ويرجئ البث فيه إلى أن تستوي الظروف. ففي السير عن عمر أنه قال: كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى فلحقته يوما فإذا هو بظاهر المدينة قد خرج متسللا فأدركته وقد دخل بيتا حقيرا في ضواحي المدينة فمكث هناك مدة ثم خرج وعاد إلى المدينة فقلت: لأدخلن هذا البيت، فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء وحولها صبية صغار فقلت يرحمكِ الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج من عندكم الآن؟ فقالت: إنه ليتردد علينا حينا والله إني لا أعرفه، فقلت فما يفعل؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا ويطبخ عشاءنا وينظف قدورنا ويجلب لنا الماء ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك، وقال: الله أكبر والله لقد أتعبت من بعدك يا أبكر. إننا إخوة الإيمان تحت ضغط الحياة المادية نعتبر هذا الكلام نسج خيال ولكنه الإيمان الذي وقر في قلب أبي بكر فحوله من قول إلى عمل ومن آيات تحفظ إلى أحكام تطبق.
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
رحم الله أبا بكر الصديق ورضي عنه وأرضاه وطاب ذكره في مماته ومحياه ورضي معه عن الصحابة أجمعين وعنا معهم آمين.. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلّغُنا به جنتَك ومن اليقين ما تُهّون به علينا مصيباتِ الدنيا ومتّعنا اللهم بأسماعِنا وأبصارِنا وقوتِنا ما أبقيتنا واجعلهُ الوارثَ منّا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصُرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتَنا في ديننا ولا الدنيا أكبرَ همِنا ولا مبلغَ علمِنا ولا إٍلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا ولا تُسلط علينا بذنوبِنا من لا يرحمنا.
اللهم إنا نسألك لأمير المؤمنين البر والتقوى ومن العمل ما ترضى وهيئ اللهم له البطانة التي تدله على الخير وتدعو إليه وباعد بينه وبين أهل الشر والنفاق يا رب العالمين.
اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين وألحقنا بالصالحين وأردنا على حوض نبيك الأمين آمين والحمد لله رب العالمين.