التوكل على الله
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى حمدا يليق بجلاله ونشكره جل وعلا شكرا يتماشى مع عظمته ونشهد أنه اللهُ أمرنا بحسن التوكل عليه فقال مُبَيِّناً ذلك في كتابه:
وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
ونشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا رسول الله رغَّب المؤمنين في التوكل على الله حق التوكل فقال:
لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ.. تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً
عباد الله إن الناظر في أحوال الأمة لَيُدرِكُ بحزن عميق وألم شديد مدى غيابِ هذا المفهومِ عند عموم الناس في هذا الزمان رغم أن التوكل جزء لا يتجزأ من عقيدتنا. قال تعالى:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ .. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ .. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
إن الله تعالى يرانا ويتولى أمرنا في كل وقت وحين فلا غرو أن يكون هو الرقيب ولا غرو أن يكون هو الشهيد فهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم إن التوكل على الله أيها الأحبة الكرام ركيزة من ركائز الإيمان التي بني عليها ولا يقوم إلا بها..
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
فإذا كان الأمر كذلك فما معنى هذا التوكلِ المنشود وكيف يتحقق؟ ولا نملك للجواب على هذا السؤال إلا الرجوع إلى محمد صاحب المثال.
ففي حديث الغار أثناء الهجرة كان صلى الله عليه وسلم مطمئنا واثقا من نصر الله له ولو بعد حين.. ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما.. إن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وهو آنذاك من المستضعفين فيطمئنه إلى أن المستقبل له وأن عاقبة صراعـه مع أعدائه ستؤول إليه..
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ .. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
سمع محمد صلى الله عليه وسلم كلَّ هذه التطمينات خلال الفترة المكية من رسالته فإذا به يجد نفسه بعد ثلاث عشرة سنة من الكفاح المتواصل مضطرا للهجرة أي للخروج من وطنه والاختفاء من أعدائه. فما هذا الذي يحدث يا ترى؟ ألم يكن ربه قد وعده النصر فلماذا يضطره للهروب؟ أليس الله تعالى هو الذي قال له:
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ
إن هذا أيها الإخوة المسلمون هو منطق التوكلِ الحق الذي يدعو إليه الإسلام. إنه منطق المُكافح الذي أدى ما عليه وأخذ بأسباب النجاح اللازمة ثم ترك لربه القيوم تسطيرَ المستقبل وإبلاغَ النتائج وفق سنن معينة محددة لا يعلمها إلا هو.
ولقد فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنطق كل الفهم وظهر ذلك جليا في هجرته. وهذا ما سنعمل بحول الله على إظهاره في الخطبة الثانية فكونوا معنا منتبهين رحمكم الله وآخر دعوانا أن الحمد لله.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين الذي أوحي إليه في القرآن الكريم:
وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
لقد نزلت هذه الآية في مكة في وقت كان المشركون يتربصون به صلى الله عليه وسلم الدوائر ويحاولون قتله، فتأكد لديه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى سينصره. لكن رغم ذلك لما أراد الخروج من مكة، أفرغ كل ما في وسعه من جهد بشري لإحكام خطة الهجرة. لم يترك للصدفة ولو مجالا واحدا إذ طلب من علي أن ينام مكانه تمويها ثم خرج متخفيا بليل لا يكاد يعلم به أحد ثم أخذ طريق الجنوب بينما وجهته إلى الشمال. ثم إنه قبل ذلك كله كان قد أعد لنفسه ولصاحبه راحلتين قويتين تستطيعان تحمل الطريق ومشقة السفر ولما توجه تلقاء يثرب استعان بمن يعرف الطريق جيدا حتى لا يضِل وأمر من يمر وراءه بالغنم ليمحو الأثر حتى لا يدركه الأعداء. ثم إنه أراد أن يقطع الشك فاختار أن يظل في الغار ثلاثة أيام.. ولم يمنعه كل هذا من أن يكون واثقا من النجاة ومن نصر الله له ولا أدل على ذلك من قوله لصاحبه وهو في الغار: لا تحزن إن الله معنا وبعدها أدركه أحد المطاردين وهو سراقة بن مالك وكان حينها مشركا فقابله ووعده بسوار كسرى يضعـه على رأسه! فأي منطق وأي قـانون هذا يا ترى وأية ثقة هذه؟ إنه منطق الإسلام الذي يحترم قانون السببية الكونية ثم يأمر بالتوكل على الحق المبين وصدق الله العظيم حين قال:
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ
وهو القائل سبحانه:
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
اللهم إنا نسألك العفاف والتقى والفوز بالجنة. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا واكفنا شر من يريد ضرنا. اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض ولا تفضحنا على رؤوس الأشهاد فإننا مذنبون أقررنا بزلاتنا واعترفنا بسيئاتنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
اللهم أيد ولي أمرنا ونور اللهم بصيرته بنور الإيمان واجعل ما يقتضيه من الأمور لصالح الوطن والإسلام. اللهم أقر عينه بالصلاة وأسعده بولي عهده وسائر أفراد أسرته و شعبه.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبحديث سيد الأولين والآخرين وجعلني وإياكم من الفائزين ويرحم الله عبدا قال آمين والحمد لله رب العالمين.